تبقي لديّ من الحديث السابق بضع خواطر تلي ثلاثاً قد سبقن
رابعاً
أن ما كان من أحداث النكسة وملابساتها ونتائجها كان كافياً جداً للمصريين لكي يقيّموا نظامهم السياسي ودرجة أدائه ويبدأوا في إعادة أمور كثيرة الي نصابها الذي مال ولكن لم يكن مسوغاً أبداً للتشكيك في خيارات إختاروها وتناسقت مع معتقداتهم وتراثهم ، نعم كان النظام السياسي بحاجة الي إعادة تصحيح لمساره وأسلوب معالجته للأمور ولكن دون أن نتخلي عن خيار التنسيق في إطار عربي واحد أو أخذ القرار الوطني في مجمع اليد وعدم الإنصياع لإملاءات الدول الكبري ومصالحها والإنحياز لقضية الوطن الضائع من الفلسطينيين وكذلك العمل لتحقيق العدل الإجتماعي بالداخل ، فكل ذلك كانت مبادئ اختارها الناس وصفقوا لها ووافقت معتقداتهم وليس معني اساءة التعبير عنها في بعض المراحل أنها في حد ذاتها مبادئ قميئة ينبغي التخلص منها
خامساً
أن المجتمع بعد النكسة كان بلا شك مهموماً لكنه أبداً لم يفقد التوازن ولا الإرادة ، وشتان بين هذا وذاك فقد التئمت صفوف القوات المسلحة المصرية بعد الضربة في بحر أسابيع قليلة وصارت تناوش المحتلين ثم تناجزهم محققة أعلي مفاجأة متصورة بإغراق المدمرة الاسرائيلية إيلات بعد أربعة أشهر فقط من النكسة!!ه
ثم توالت بعد ذلك عمليات اعادة التسليح والتنظيم مقرونة بعمليات حرب الاستنزاف
لم أقول هذا الكلام؟
هذا الكلام ليس سفسطة فارغة أو محض جدل عقيم ولكنه دعوة لتدقيق النظر لتبين التاريخ الدقيق لهبوط منحني القيم لدي المجتمع المصري وظهور مؤشرات انحطاط الذوق فيه ، فالبعض إستغل الخداع البصري لدي المصريين فنسب ظهور هذه المؤشرات فيما يلي النكسة مباشرة وبسببها وهو مما لا يلامس الحقيقة في شئ والا فليقولوا لي عن تاريخ ظهور وانتشار ما يعدونه كمؤشرات لهذا الإنحطاط في الذوق : هل كان في الأعوام الستة بين الاحتلال والتحرير أم كان فيما يلي تبدل السياسات والإنفتاح وتسرب نقود وأخلاقيات النفط للداخل المصري ( مع تسجيل كامل إعتراضي الشديد علي إعتبار فنان مثل أحمد عدوية أحد هذه المؤشرات للإنحطاط في الذوق المصري)ه
وتلخيصاً نقول أن المجتمع المصري - بل والعربي ككل - كان بعد النكسة يعاني من بعض الإكتئاب والهم ولكنه أبداً لم يفقد إيمانه بالقضية أو بخياراته الا في مرحلة لاحقة كان لها ظروفها
سادساً
كرأي متواضع في أسباب أفضت الي النكسة فأنا علي شبه يقين من أن الهزيمة العسكرية لم تكن مدعاة أبداً لجلد الذات لأن الأمر لا يتعدي جولة في حرب ممتدة ومع ذلك فالهزيمة العسكرية نفسها لم تحدث لأن القتال بين الطرفين لم ينشب من الأساس فيظهر كل من الطرفين قدراته ، ولكن إسرائيل أغارت علي جيش لم يكن يرفع سلاحه أصلاً
السبب الأساسي الذي توصلت اليه بعد تفكير وبحث لم يكن مجرد قرارات خاطئة صدرت من عبد الحكيم عامر أثناء القتال أو من جمال عبد الناصر قبل الأزمة وأثنائها ، السبب الأساسي كان في شئ واحد لم أجد له تسمية شائعة فسميته ( النسق الفكري )ه
والمقصود ب ( النسق الفكري ) هو الطريقة التي يرتقي بها الفكر ويتطور بها أسلوب التفكير بالأعتماد علي تجارب سابقة والأحداث اليومية وإعمال الإبداع الشخصي وسبل توفير المعلومات والإستفادة منها وعدم الإنحياز للمعتقدات الشخصية إذا ما تعارضت مع معطيات الواقع
فإذا ما أخذنا هذا التعريف وحاولنا تطبيقه علي أمر النكسة سنجد أن أموراً عديدة ليست في موضعها ومن قبل النكسة بسنوات عديدة
رجال غير أكفاء يضطلعون بمسئوليات خطيرة لمجرد أنهم أهل الثقة!!ه
وإنغلاق العيون عن تبدل الأحوال في العالم عن ما كانت إبان حرب السويس ، فلم يعد الأصدقاء في أنحاء العالم في أماكنهم سواء في الأمم المتحدة أو أسيا أو في إفريقيا أو حتي في أمريكا اللاتينية ، وحتي الأعداء تبدلت ملامحهم واختلطت مصالحهم وأهدافهم
حتي الأحوال في العالم العربي كانت قد تبدلت وكان هذا يستدعي قدراً أكبر من الحذر في معالجة الأمور ، وحتي سوريا التي كانت خير عون لمصر في حرب السويس صارت - دون أن تقصد - الطعم الذي ابتلعه المصريون
كل هذه الشواهد وأكثر كانت تشير الي ان ( النسق الفكري ) للقيادة المصرية لم يكن متطوراً بالقدر الكافي فلم يواكب نظيره علي الضفة الأخري وكانت النكسة هي النتيجة
النّسق الفكري عند جمال عبد الناصر كنموذج
جمال عبد الناصر الرئيس المصري الذي قاد مجموعة الضباط الأحرار للتخطيط والقيام بتغيير نظام الحكم في مصر وقد نجح في هذا فعلياً بينما أن عمره كان أربعة وثلاثين عاماً وطوال أربعة أعوام تالية كان المخطط الأساسي لتغيير وجه الحياة السياسية والإجتماعية في مصر الي أن كانت معركة السويس مقاومةً لقوي الطمع والتأمر الثلاثية في الظاهر وحرب علي قيم الإستعمار وإستعباد الشعوب في الحقيقة وخرجت مصر بقيادة عبد الناصر منتصرة ومحتفظة بالدرة التي أثارت الزوابع من أجلها ( قناة السويس )وكان هذا وقد بلغ عبد الناصر الثامنة والثلاثين من العمر وهي سن صغيرة جداً بالنسبة لقائد عليه أن يقرر مثل هذه القرارات ويتحمل نتائجها ، فإذا أضفنا الي ذلك أن عبد الناصر الذي كان يقرأ بنهم في صغره وشبابه قد تكالبت عليه مصاعب الحكم ومشاغله - بحكم انه أخذ مجمع السلطات في يده - فمنعته من استكمال القراءة أو الإطلاع فيمكنني أن أقول بمنتهي الإطمئنان أن جمال عبد الناصر قد توقف النسق الفكري لديه عند الخبرة المريعة الذي دخلها في حرب السويس وخرج منها منتصراً وعند بقايا القراءات والمعارف التي تأسس عليها فكره الشاب
لذا فقد كان من المتوقع أنه ولدي تصاعد الجولة التالية من الصراع العربي الإسرائيلي - النكسة - فقد تصرف عبد الناصر علي أساس الخبرة الضخمة التي جربها من قبل ، ولم يسعفه النسق الفكري في أن يعرف أن كل الأمور قد تبدلت وأن الهدف من الجولة هذه المرة ليس قناة السويس أو إسقاط النظام الحاكم من الخارج ولكن تحطيم الجيش المصري وكسر شوكته وخلق منطقة أمنة بينه وبين إسرائيل