في الثامن من يناير عام 1992 الساعة الثانية عشرة بدأت فعاليات حدث ثقافي مهم في ارض المعارض بالقاهرة لمناظرة دعا اليها وقتها د.سمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب..العنوان كان" مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" وكانت مناظرة بين الفريق الإسلامي وبين دعاة الدولة المدنية والعلمانية..عن الفريق الأول حضر الشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة والمستشار مأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان وقتها..وعن الفريق الثاني حضر الدكتور فرج فودة المفكر المثير للجدل وقتها والدكتور محمد خلف الله القيادي بحزب التجمع وقتها..تم طبع المناظرة بين دفتي كتاب يمكن تحميله من هنا واتمني قراءة المناظرة كاملة لكي تحصل للمهتمين بالقضية الفائدة الكبري
بعد قراءة نص المناظرة أحب ان اضع تحت نظرك الملاحظات التالية
اولاً: ان السادة المتناظرين علي قدرهم العالي ولوجه السخرية لم يكونوا يتحدثون عن مفهوم موحد للمصطلح الواحد الذي يستخدمونه..فمفهوم الدولة الدينية عند الشيخ الغزالي هي الدولة التي تسير علي هدي الله وفطرته التي فطر الناس عليها ..بينما كان مفهومها عند فرج فودة هي الدولة التي يتحكم فيها بشر في إخوانهم البشر بدعوي الحكم بشرع الله والاستئثار بتفسير الشرع حسب الأهواء ..وقد استمات كلا الفريقين في الدفاع عن وجهة نظره ونسي ان يعرفا للناس ماهية ما يدافعون عنه اصلاً حتي توهم الحضور ان الموضوع هو (الهجوم علي الإسلام..والدفاع عن الإسلام)!!!ه ولم ينتفع الناس بشئ
ثانياً: ان الفريق الإسلامي كان مدفوعاً غالباً بمشاعر الحمية الدينية...وكالمعتاد ومثلما هو ما زال سارياً حتي الأن فقد استنفرت مشاعره للدفاع عن (الإسلام) من وجهة نظره من سهام الحاقدين العلمانيين الذين يبيتون ليالهم ويدورون نهارهم دأباً لخلخلة الإسلام من قلوب المسلمين تارة بالشبهات وتارة بالمطالبة بالعلمانية كنظام حكم لا ديني يغتال الدين في قلوب الناس...ودليلاً علي هذا فالدكتور محمد عمارة الذي استمر في الدفاع عن (الإسلام) ودولته هو الذي حقق الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده بما فيها من تأكيد الإمام المستمر علي مدنية الدولة -بما سوف نفصله لاحقاً...وعمارة نفسه هو الذي حقق أعمال قاسم امين وفسر أطروحاته عن المرأة الجديدة وتحرير عقلها وتعليمها وتنشئتها..بل وهو الذي حقق أعمال الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري واضع دستور 1954 الذي يترحم عليه الناس الأن لما فيه من الحريات
والدكتور محمد الغزالي هو الاخر لم ينج من نفس الفخ الذي غطت فيه مشاعر الحمية بصيرته..وهو الذي كان مطارداً من قوي الإستبداد قبل الثورة وبعدها كونه كان منتمياً لجماعة الإخوان المسلمين..وكانت له كتب عظيمة في ذم النظم الإستبدادية علي إختلاف صورها وتأكيده المستمر علي مدنية دولة الإسلام وانها بلا كهنوت..من مثل ما طرح في كتابه (الإسلام والإستبداد السياسي) وغيرها
ولكن الواضح ان العالمين الجليلين لم يفرقا بين (الأسلام) و(تاريخ المسلمين) الي ان صار تحليل الأخير ونقد محتواه الإستبدادي كأنه منسحب علي الإسلام نفسه..واي محاولة لتعريف اصل الداء واقتراح اليات تضمن عدم تكرار مساوئ الماضي تكون محاولة لمحو حضارة الإسلام وإخفاء معالمه
حتي حين يسأل فودة عن (البرنامج الإسلامي) الذي يقدمه الفريق الإسلامي كبديل لمقترح الدولة المدنية يفاجأ الحضور-وحتي الأن- ان الفريق الإسلامي لا يملك برنامجاً ليقدمه كون عمارة والغزالي لم يستبينا الغرض من المناظرة اصلاً لدي مجيئهما..اما المستشار الهضيبي فمن وجهة نظري كان يعبر عن جماعة تعرف ان نهايتها في تساويها مع الأحزاب في وضع برنامج قد ينجح وقد يفشل..وهي ليست مثل الأحزاب كي تفعل هذا!!!ه
ثالثاً : ظهر في المناظرة تجسيد هائل للحواس الغائبة في أرض العرب..لم يستمع الفريق الإسلامي لما قاله الفريق المدني من ضرورة سيادة القانون ومراعاة الديانات الأخري ولم يستمع الفريق المدني لتوجسات الفريق الإسلامي من النظام العلماني الذي سيمحو أثر الإسلام ويعزله في المساجد والبيوت إفضاءاً لتحنيطه..أقر الفريق الإسلامي بمدنية الدولة من جميع الوجوه ولم يقدم اي اليات او نظام لتحقيق هذا ولكأنه سيتحقق وحده في دولة(الإسلام) ..وأقر الفريق المدني بمكانة الدين في نفوس الناس ولم يقدم اي اليات يفرق بها بين الأنظمة العلمانية المتطرفة وبين النظام الذي ينشده ليتفق مع مكانة الدين في نفوس الناس
رابعاً: هناك غيم كثير علي مصطلح العلمانية قد أن الاوان ان نبدده ونستبين ماهية المصطلح وحقيقة ما يدل عليه لكي نؤسس أرائنا علي بينة وعلي قاعدة متينة معلنين إكتفائنا من غياب بعض الحواس لدينا نحن أبناء العرب
1 comment:
بالفعل فإن غالبية الإسلاميين يؤكدون على مدنية الدولة فى إطار المرجعية الإسلامية , ولكن - للأسف - بدون رؤية واضحة المعالم لتطبيق ذلك.
وليس الحال بأفضل منه عند العلمانيين الذين لا يعلمون أن الإسلام منهج حياة متكامل , وأن الأمر يتطلب فقط أن يفهمه من يطبقونه بصورته النقية الحقيقية البعيدة عن التسلط السياسى وقمع الحريات.
والمطلوب هو أن يفهم كل طرفٍ الآخر جيداً دون تأويل أو تشويه , ثم يتحاورون بهدف الوصول بالوطن إلى بر الأمان.
بارك الله فيك على طرح هذه القضية الهامة.
Post a Comment